.تفسير الآية رقم (4):
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)}:فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [46/ 4] أَيْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرَوْنِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ.فَقَوْلُهُ: أَرَوْنِي- يُرَادُ بِهِ التَّعْجِيزُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ خَلْقِهِمْ شَيْئًا.وَعَلَى أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَذَا مَوْصُولَةٌ- فَالْمَعْنَى أَرُونِي مَا الَّذِي خَلَقُوهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَعَلَى أَنَّ مَا وَذَا بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ- فَالْمَعْنَى: أَرُونِي أَيَّ شَيْءٍ خَلَقُوهُ مِنَ الْأَرْضِ؟وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَالٍ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فَاطِرٍ:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} الْآيَةَ [35/ 40]. وَقَوْلِهِ فِي لُقْمَانَ:
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [31/ 11]. وَقَوْلِهِ فِي سَبَأٍ:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [34/ 22]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا قَرِيبًا.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا- قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [43/ 21].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [45/ 10]. وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [19/ 81].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قُرِئَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، ادَّعَوْا أَنَّهَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَاضِحٌ.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ افْتِرَائِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَاحِرٌ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَبَأٍ:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [34/ 43]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الزُّخْرُفِ:
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [43]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ:
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [21/ 2- 3]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [11/ 7].وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
.تفسير الآية رقم (8):
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}:قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.أَمْ هَذِهِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَاهُمَا مَعًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.فَأَمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ مَعًا، فَهُوَ بِمَعْنَى دَعْ هَذَا، وَاسْمَعْ قَوْلَهُمُ الْمُسْتَنْكَرَ لِظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الْآيَةَ [10/ 38]. وَقَوْلِهِ:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [11/ 13]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [10/ 37]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُ هَذَا الْقُرْآنَ، عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ.وَالتَّقْدِيرُ: عَاجَلَنِي اللَّهُ بِعُقُوبَتِهِ الشَّدِيدَةِ، وَأَنْتُمْ لَا تَمْلِكُونَ لِي مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَدْفَعُوا عَنِّي عَذَابَهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَنِيَ عَلَى الِافْتِرَاءِ، فَكَيْفَ أَفْتَرِيهِ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنِّي؟وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [69/ 44- 47].فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْحَاقَّةِ هَذِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ.وَقَوْلُهُ فِي الْحَاقَّةِ: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَحْجِزُوا عَنْهُ، أَيْ يَدْفَعُوا عَنْهُ عِقَابَ اللَّهِ لَهُ بِالْقَتْلِ، لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ.وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِهِ عَنِّي.وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [5/ 17]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [5/ 41].وَمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْأَحْقَافِ هَذِهِ وَآيَةُ الْحَاقَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لَهَا، مِنْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ عَاجَلَهُ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ- جَاءَ مَعْنَاهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي يُونُسَ:
{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [10/ 15] أَيْ إِنِّي أَخَافُ- إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بِالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ بِتَبْدِيلِ قُرْآنِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ- عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الرُّسُلِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْ صَالِحٍ:
{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} الْآيَةَ [11/ 63]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الْآيَةَ].
.تفسير الآية رقم (9):
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}.الْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: بِدْعًا أَنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ بِمَعْنَى مُبْتَدِعٍ، وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الَّذِي أَبْدَعَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ.وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا كُنْتُ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى الْبَشَرِ، بَلْ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الرُّسُلِ إِلَى الْبَشَرِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِبْعَادِكُمْ رِسَالَتِي، وَاسْتِنْكَارِكُمْ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ قَبْلِي رُسُلًا كَثِيرَةً.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [13/ 38]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الْآيَةَ [30/ 47]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} الْآيَةَ [4/ 163]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [42/ 1- 3]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} الْآيَةَ [41/ 43]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الْآيَةَ [3/ 144]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الْآيَةَ [6/ 34]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}.التَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَمَا أَدْرِي أَأُخْرَجُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِي، أَوْ أُقْتَلُ كَمَا فُعِلَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ.وَمَا أَدْرِي مَا ينَالُنِي مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأُمُورِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ.وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ: أَيُخْسَفُ بِكُمْ، أَوْ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ.وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} الْآيَةَ [7/ 188]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى آمِرًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الْآيَةَ [6/ 50].وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ- فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-.فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ- فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ- أَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يُفْعَلُ بِهِ.فَنَزَلَتْ:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [48/ 2] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ لَكَ اللَّهُ مَا يُفْعَلُ بِكَ، فَلَيْتَ شِعْرَنَا مَا هُوَ مَا فَاعِلٌ بِنَا، فَنَزَلَتْ:
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الْآيَةَ [48/ 5]. وَنَزَلَتْ:
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [33/ 47].فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْهَلُ مَصِيرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِصْمَتِهِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- وَقَدْ قَالَ لَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [93/ 4- 5] وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يُفْعَلُ بِي أَيْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ حَدِيثَهَا فِي قِصَّةِ وَفَاةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عِنْدَهُمْ، وَدُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، أَنَّهَا قَالَتْ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ؛ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- تَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ؟» فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي» الْحَدِيثَ.فَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَقَدْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أُمِّ الْعَلَاءِ الْمَذْكُورَ بِالسَّنَدِ الَّذِي رَوَاهُ بِهِ أَحْمَدُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ
«مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْعَلُ بِهِ»، وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهَا: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَهُوَ الصَّوَابُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
.تفسير الآية رقم (10):
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}.جَوَابُ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ.وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي تَقْدِيرِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَجَحَدْتُمُوهُ- فَأَنْتُمْ ضُلَّالٌ ظَالِمُونَ. وَكَوْنُ جَزَاءِ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُهُمْ ضَالِّينَ ظَالِمِينَ- بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ فُصِّلَتْ:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [41/ 52]. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ هَذِهِ: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: مَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ؛ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا.وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ حَالَكُمْ، إِنْ كَانَ كَذَا، أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ.فَالْأَوَّلُ: حَالُكُمْ، وَالثَّانِي: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَقَدْ ظَلَمْتُمْ.وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا.وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ أَرَأَيْتُمْ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}.التَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ إِطْلَاقُ الْمَثَلِ عَلَى الذَّاتِ نَفْسِهَا، كَقَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ هَذَا، يَعْنُونَ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْتَ أَنْ تَفْعَلَهُ.وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ مُمَاثِلٍ لَهُ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
{فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}.وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا تَكَرُّرُ إِطْلَاقِ الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} الْآيَةَ [6/ 122].فَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، أَيْ كَمَنْ هُوَ نَفْسُهُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [2/ 137] أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، لَا بِشَيْءٍ آخَرَ مُمَاثِلٍ لَهُ- عَلَى التَّحْقِيقِ-.وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ الْآيَةَ.الْقَوْلُ بِأَنَّ لَفْظَةَ مَا فِي الْآيَةِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِإِيمَانٍ مِثْلِ إِيمَانِكُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، لَا يَخْفَى بُعْدُهُ.وَالشَّاهِدُ فِي الْآيَةِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ.وَقِيلَ: إِنَّ الشَّاهِدَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
.تفسير الآية رقم (11):
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}.أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، أَنَّهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ فَقُرَّاءَ الْمُسْلِمِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ: كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَنَحْوِهِمْ- أَحْقَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمُ الطَّرِيقَ الَّتِي فِيهَا الْخَيْرُ.وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَظَمَةٌ وَجَاهٌ وَاسْتِحْقَاقُ السَّبْقِ لِكُلِّ خَيْرٍ؛ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ فِي الْآخِرَةِ.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَظْهَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ- تَدُلُّ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.أَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ مَا أُعْطُوا مِنَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجَاهِ فِي الدُّنْيَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيُعْطَوْنَ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [23/ 55- 56]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} الْآيَةَ [19/ 77- 79]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34/ 35] مَعَ قَوْلِهِ:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} الْآيَةَ [34/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [41/ 50].وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18/ 36].وَأَمَّا احْتِقَارُ الْكُفَّارِ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَائِهِمْ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ أَحْقَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّمَا هُمْ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْكُفَّارِ- فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ:
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [6/ 53].فَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، تَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ بِخَيْرٍ.وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ [6/ 53- 54]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ:
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [7/ 48- 49]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ص:
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [38/ 62- 63].فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ ينَالَهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا وَسَيَسْخَرُ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [83/ 29- 36]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ [2/ 212].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [26/ 194- 195] وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الْآيَةَ [39/ 28].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِنْذَارِ فِي الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} الْآيَةَ [7/ 2]. وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [18/ 2].
.تفسير الآية رقم (13):
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ [41].
.تفسير الآية رقم (15):
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}.قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: حُسْنًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ.وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِحْسَانًا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ، وَأَلْفٍ بَعْدِ السِّينِ.وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [17/ 23]. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: قِيلَ: ضَمَّنَ وَوَصَّيْنَا مَعْنَى أَلْزَمْنَا، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَانْتَصَبَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَصَّيْنَا.وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ إِيصَاءً ذَا حُسْنٍ أَوْ ذَا إِحْسَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُسْنًا بِمَعْنَى إِحْسَانٍ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ بِهَا لِإِحْسَانِنَا إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقِيلَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أَحْسَنَّا بِالْوَصِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. اهـ. مِنْهُ، وَكُلُّهَا لَهُ وَجْهٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}.قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: كَرْهًا بِفَتْحِ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.وَهُمَا لُغَتَانِ كَالضُّعْفِ وَالضَّعْفِ.وَمَعْنَى حَمَلَتْهُ كُرْهًا أَنَّهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا بِهِ تُلَاقِي مَشَقَّةً شَدِيدَةً.وَمِنَ الْمَعْلُومِ مَا تُلَاقِيهِ الْحَامِلُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالضَّعْفِ، إِذَا أَثْقَلَتْ وَكَبَرَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا.وَمَعْنَى وَضَعَتْهُ كُرْهًا: أَنَّهَا فِي حَالَةِ وَضْعِ الْوَلَدِ تُلَاقِي مِنْ أَلَمِ الطَّلْقِ وَكَرْبِهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.وَهَذِهِ الْمَشَاقُّ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُلَاقِيهَا الْأُمُّ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ وَوَضْعِهِ، لَا شَكَّ أَنَّهَا يَعْظُمُ حَقُّهَا بِهَا، وَيَتَحَتَّمُ بِرُّهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهَا، كَمَا لَا يَخْفَى.وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تُعَانِيهَا الْحَامِلُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي لُقْمَانَ:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [31/ 14] أَيْ تَهِنُ بِهِ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، أَيْ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ; لِأَنَّ الْحَمْلَ كُلَّمَا تَزَايَدَ وَعَظُمَ فِي بَطْنِهَا، ازْدَادَتْ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ هَذِهِ كُرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ- مَصْدَرٌ مُنْكَّرٌ، وَهُوَ حَالٌ، أَيْ حَمَلَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ وَوَضَعَتْهُ ذَاتَ كُرْهٍ، وَإِتْيَانُ الْمَصْدَرِ الْمُنْكَّرِ حَالًا كَثِيرٌ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَصْدَرٌ مُنْكَّرٌ حَالًا يَقَعْ ** بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْوَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُرْهًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ حَمَلَتْهُ حَمْلًا ذَا كُرْهٍ، وَوَضَعَتْهُ وَضْعًا ذَا كُرْهٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا بِانْفِرَادِهَا تَعَرُّضٌ لِبَيَانِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَكِنَّهَا بِضَمِيمَةِ بَعْضِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى إِلَيْهَا يُعْلَمُ أَقَلُّ أَمَدِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ صَرَّحَتْ بِأَنَّ أَمَدَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ مَعًا- ثَلَاثُونَ شَهْرًا.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي لُقْمَانَ: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ. وَقَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [2/ 233]- يُبَيِّنُ أَنَّ أَمَدَ الْفِصَالِ عَامَانِ، وَهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، فَإِذَا طَرَحْتَهَا مِنَ الثَّلَاثِينَ بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُهَا أَمَدًا لِلْحَمْلِ، وَهِيَ أَقَلُّهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَمَدُ الْحَمْلِ- هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ.وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَبَاحِثِ الْحَجِّ، فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي مَبْحَثِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَأَشَرْنَا لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [6/ 152] وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.